الجمعة 20 جمادى الآخرة 1441 هـ 

الموافق 14 فبراير 2020 م

الحمدُ لله، نحمده تعالى حقَّ حمده لم يزَل بديعاً خلَّاقًاً، أودعَ البريَّةَ نوازِعَ ومشاعرَ وأشواقًاً، وأعقبَها جزاءً وِفاقًاً، ونشهد أن لا إلهَ إلا الله وحدَه لا شريك له شهادةً تعمُر القلبَ إِشراقًاً، والروحَ ندًى وإيراقًاً، ونشهد أنَّ سيِّدَنا ونبيَّنا محمَّداً عبد الله ورسولُه، أزكَى العالمين أرُومةً وأَعراقًاً، صلَّى الله وبارَك عَليه نهَلَنا من الحبِّ الطَّهور كأساً دِهاقًا، وعلى آلهِ الطيبين المُترَعين حناناً وإشفاقًاً، وصَحابته الغُرِّ الَّذين انبَثَقَ بهمُ الحقُّ انبثاقًاً، والتّابعين ومَن تبعهم بإحسانٍ تنافُساً في الجِنانِ واستِباقًاً، وسلَّم تسليماً كثيراً أبدَ الدَّهر رَقراقًاً.

أمّا بعد: فأوصيكم عباد الله ونفسي بتقوى الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)

معاشر المسلمين: كل إنسان في هذه الحياة الدنيا تجري فيه صفات كثيرة، بطبيعته البشرية، كالحب، والبغض، والرضا، والكره، والفرح، والشدة، والحزن، وغيرها..

ومن بين هذه الصفات اسم جميل وأمر ذو معانٍ عظيمة متى وضع في محله الصحيح كان سعادة حقيقية: إنه الحب الذي يسمو بالنفس ويحلق بها في فضاء من السعادة والجمال، ويضفي على حياتنا بهجة وسروراً، ويكسو الروح بهاءً وحبوراً.

ولهذا الحب صورٌ عديدة، أعظمها حب الله جل وعلا، ثم حب رسوله صلى الله عليه وسلم، إن القلوب قد جُبِلت على حب من أحسن إليها، ولا شك ولا ريب أن أعظم المحسنين هو الله رب العالمين؛ بل كل الفضل والإحسان منه؛ فإن مصدرَ أي نعمةٍ أو إحسان فإنها من الله الكريم المنان: (وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ)  فيجب على العبد أن يحبَّ الله تعالى غاية الحب ويعبدَه وحده لا شريك له. وهذا من أعظم الواجبات؛ فإن الله تعالى أوجب علينا ذلك وتوعد من خالف فيه بقوله: (قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ) فمن علامة صدق العبد في محبته لله أن يُقدم ما يحبه الله على ما تحبه نفسه، ويميل إليه هواه وطبعه من المال والقرابة والمساكن وغيرها، ولهذا آثر السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان ما يحبه الله على ما يحبونه، فقدموا أنفسهم وأموالهم في سبيل الله وكانت النتيجة أن وصفهم الله بالصادقين، كما في الآية السابقة.. فقارنوا عباد الله بين حـال هؤلاء الصادقين وبين حـال بعض الناس هداهم  الله ممن يقدم هوى نفسه على طاعة ربه، فإذا دعي إلى الصلاة آثر النوم والراحة أو اللهو واللعب أو التجارة والدنيا؛ ولم يبادر إلى الصلاة ولم يجب داعي الله. وإنما يجيب داعي الشيطان والهوى والنفس ويؤثر طلب الدنيا على طلب الآخرة… إن الإسلام وسع علينا في طلب الأرزاق والتجارة؛ لكن التاجر والموظف الذي يأخذ المال بطرق محرمة كالربا والغش والكذب والرشوة والاختلاس والتدليس قد آثر في ذلك حب المال على حب الله، والبخيل الذي يمنع الحقوق الواجبة في ماله كالزكاة والصدقة والإنفاق في سبيل الله قد آثر حب المال على حب الله ونسي قوله سبحانه: (وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ).. أيها المؤمنون: وكما تجب محبة الله تعالى تجب محبة رسوله صلى الله عليه وسلم وهي تابعة لمحبة الله ولازمة لها، يقول صلى الله عليه وسلم: (لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ وَلَدِهِ وَوَالِدِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) ، ذلك لأن الرسول صلى الله عليه وسلم هو الذي دلنا على هذا الدين العظيم وما فيه من الخير العميم، وبين لنا طريق النجاة وسبيل السعادة؛ وحذرنا من الشر والهلاك فبسببه اهتدينا. ومحبة النبي صلى الله عليه وسلم تقتضي متابعته وطاعته، فمن ادعى محبة النبي صلى الله عليه وسلم بدون متابعته والتمسك بسنته وترك البدع المحدثة في الدين، فهو لم يصدقْ في دعواه؛ فمحبة الله ومحبة رسوله تكون بالطاعة والامتثال. وطاعة الرسول هي طاعة لله عز وجل، قال تعالى: (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ) ومحبة الله ورسوله خير ما يعده الإنسان للقاء الله، فهو سبب دخول الجنة، ففي الحديث أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الساعة فقال: مَتَىَ السَّاعَةُ؟ قَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم :(مَا أَعْدَدْتَ لَهَا؟) قَالَ: حُبُّ اللهِ وَرَسُولِهِ، قَالَ: (أَنْتَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ) قال الصحابة فما فرحنا بشيء فرحنا بقول النبي صلى الله عليه وسلم: (أنت مع من أحببت)

عباد الله: ومن صور الحب الشرعي محبة من أعظم الله شأنهم لنا من أقاربنا؛ وأوجب لهم أعظم البر والصلة: أعني الوالدين اللذين قرن الله حقهما بحقه سبحانه، فقال: (وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً ۚ إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلًا كَرِيماً) جَاءَ رَجُلٌ إلى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وَسَلَّمَ، فَقالَ: مَن أَحَقُّ النَّاسِ بحُسْنِ صَحَابَتِي؟ قالَ: أُمُّكَ قالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قالَ: ثُمَّ أُمُّكَ قالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قالَ: ثُمَّ أُمُّكَ قالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قالَ: ثُمَّ أَبُوكَ) فالوالدان حبُّهما يأتي من عظيم فضلهما وحقهما، فهما سببا وجودك؛ وهما من قاما على شؤونك منذ كنت حملاً في بطن أمك، ويتبع حقَّ الوالدين وحبَّهما حقُّ الأرحام وهم الذين لك بهم صلة عن طريقهما، فقد أمر الله بوصلهم وبرهم ووعد بعظيم الأجر في ذلك، وتوعد من لم يقم بذلك بالإثم العظيم. يقول رسولُ اللَّه ﷺ: (إِنَّ اللَّه تَعَالى خَلَقَ الخَلْقَ حَتَّى إِذَا فَرَغَ مِنْهُمْ قَامَتِ الرَّحِمُ، فَقَالَتْ: هَذَا مقَامُ الْعَائِذِ بِكَ مِنَ الْقَطِيعَةِ، قَالَ: نَعَمْ، أَمَا تَرْضَيْنَ أَنْ أَصِلَ مَنْ وَصَلَكِ، وَأَقْطَعَ مَنْ قَطَعَكِ؟ قَالَتْ: بَلَى، قال: فذَلِكَ لَكِ، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّه ﷺ: اقرؤوا إِنْ شِئْتُمْ: (فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ، أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ)

ومن صور الحب الشرعي محبة الزوج لزوجته، والزوجة لزوجها، فالحياة الزوجية إذا كانت محاطة بالحب، ألفى فيها الزوج راحته من العناء، وأنسه من الوحشة حتى يذوق طعم الحياة، وكذلك تجد فيها الزوجة سعادتها وأنسها وعزها، فالحياة الزوجية بستان لا يزدهي ولا يطيب إلا بسقيه بماء الحب، فإن جفّ عنه ذلك الماء صار قائمه إلى ذبول، وذهب نجمه إلى أفول. لكن ذلك لا يعني أن تسلم الحياة من المكدرات والمنغصات والمشكلات، فحرارة الحب الزوجي ستمرُّ بها رياح التغيير فتطفئ بعض وهجها ولابد. يقول صلى الله عليه وسلم: لَا يَفْرَكْ (يعني: لا يبغض) مُؤْمِنٌ مُؤْمِنَةً إِنْ كَرِهَ مِنْهَا خُلُقًاً رَضِيَ مِنْهَا آخَرَ أَوْ قَالَ: غَيْرَهُ) وهذا توجيه نبوي بمحبة الزوجة وترك بغضها…عباد الله: ومن صور الحب في الإسلام محبة الأولاد والأحفاد، فهم منحة إلهية، وهبة ربانية، يختص الله بها من يشاء من عباده، ولو كان فقيراً، ويحرم من يشاء من عباده ولو كان غنياً، يقول تعالى: (لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ * أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ). والأولاد عباد الله ذكوراً كانوا أم إناثاً هم بسمة الأمل، وأريج الحياة، وريحانة القلب، يقول تعالى:(الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) وللأولاد والأحفاد نصيبٌ من حب الوالدين، وحظ من حنانهما عليهم؛ لأن ذلك يساعد على نموهم العقلي والجسمي والنفسي والعاطفي، وأي بيت لا يجد فيه الأولاد طعم الحب والعطف فإن ذلك يربي في نفوسهم الكراهية والعُقد النفسية والميل إلى الانتقام وربما لعقوا رضابَ الحب والغرام من أفواه الحرام… عباد الله: ومن صور الحب الشرعي محبة الأصحاب والأصدقاء،  كلٌّ يحب أصحابه، وإلا لما استمر في صحبتهم وصداقتهم، وقد تكون هذه المحبة سبباً في الألفة والخير؛ وقد تكون وبالاً على المحب إن لم تكن في محلها، إلا أنه ولا شك أن الأصحاب الصالحين هم الأحق بهذه المحبة لأن محبتهم تكون خالصة لله، ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم كان يحب أصحابه رضي الله عنهم ويعلن ذلك ويخبرهم.. ولا يوجد دين يحث أبناءه على التحابب والمودة كدين الإسلام؛ ولهذا حث النبي صلى الله عليه وسلم على الإخبار بمشاعر الحب؛ لأن هذا يقويه ويفضي إلى شيوع الألفة بيننا. قال النبي صلى الله عليه وسلم : (إِذَا أَحَبَّ المرءُ أَخَاهُ فَلْيُخْبِرْهُ أَنَّهُ يُحِبُّهُ) وروي أَنَّ رَجُلًاً كَانَ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ  فَمَرَّ بِهِ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ! إِنِّي لَأُحِبُّ هَذَا، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَعْلَمْتَهُ؟ قَالَ : لَا،  قَالَ : أَعْلِمْهُ، قَالَ:  فَلَحِقَهُ فَقَالَ: إِنِّي أُحِبُّكَ فِي اللَّهِ، فَقَالَ: أَحَبَّكَ الله الَّذِي أَحْبَبْتَنِي فيه) ومحبة الأصحاب في الله جل وعلا سبب لنيل محبة الله، وهي من علامات صدق الإيمان، وبها يجد المؤمن حلاوة الإيمان، قال النبي صلى الله عليه وسلم: أوثق عرى الإيمان: (الحب في الله والبغض في الله) وقال صلى الله عليه وسلم: (ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: وذكر منها: وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله..) والحب في الله سبيل للجنة: قال نبينا صلى الله عليه وسلم:( وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَا تَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى تُؤْمِنُوا وَلَا تُؤْمِنُوا حَتَّى تَحَابُّوا أولا أدلكم عَلَى شَيْءٍ إِذَا فَعَلْتُمُوهُ تَحَابَبْتُمْ أَفْشُوا السَّلَامَ بَيْنَكُمْ)

عباد الله: ومن صور الحب الشرعي الذي يصير نعمة على صاحبه: حب المسلمين، وحب الخير لهم، فالمسلم الذي يحب المسلمين يكرمهم، ويرفق بهم، ويرحمهم، ويتعاون معهم، ويصنع لهم المعروف ما استطاع لذلك سبيلاً، ويبتعد عن إيذائهم بالقول أو بالعمل. يقول صلى الله عليه وسلم: تَرَى المُؤْمِنِينَ في تَراحُمِهِمْ وتَوادِّهِمْ وتَعاطُفِهِمْ، كَمَثَلِ الجَسَدِ، إذا اشْتَكَى عُضْواً تَداعَى له سائِرُ جَسَدِهِ بالسَّهَرِ والحُمَّى)

ويقول: (لاَ يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ، حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ) ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اللهُمَّ مَنْ ولِي من أمْرِ أُمَّتِي شيئاً فَشَقَّ عليهم فاشْقُقْ علَيهِ ، ومَنْ ولِيَ من أمرِ أُمَّتِي شيئاً فَرَفَقَ بِهمْ فارْفُقْ بِهِ)

اللهم إنا نسألك حبك؛ وحب من يحبك؛ وحب العمل الصالح الذي يقربنا إلى حبك.

نفعني الله وإيّاكم بالقرآن العظيم، وبهديِ سيد المرسلين، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيمَ الجليل لي ولكم ولسائرِ المسلمين من كلّ ذنبٍ فاستغفروه، إنّه هو الغفور الرحيم.

 

الخطبة الثانية

الحمد لله كما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ونشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبد الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأزواجه وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً.

أما بعد فيا أيها المسلمون: ومن صور الحب الشرعي محبة الوطن، فما من إنسان إلا ويعتز بوطنه؛ لأنه مهد صباه، ومدرج خطاه، ومرتع طفولته، وملجأ كهولته ومنبع ذكرياته، وموطن آبائه وأجداده، ومأوى أبنائه وأحفاده، لقد وقف النبي صلى الله عليه وسلم يُخاطب مكة المكرمة مودعاً لها وهي وطنه الذي أُخرج منه، فقال: ما أطيبكِ من بلد، وأحبَّكِ إليَّ، ولولا أن قومي أخرجوني منكِ ما سكنتُ غيركِ) قالها بلهجة حزينة مليئة أسفًاً وحنيناً وحسرة وشوقًاً، مخاطباً إياها: (ما أطيبكِ من بلد). ولولا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مُعلم البشرية، يُحب وطنه لما قال هذا القول الذي لو أدرك كلُّ إنسانٍ مسلمٍ معناه لرأينا حب الوطن يتجلى في أجمل صوره وأصدق معانيه، ولأصبح الوطن لفظًاً تحبه القلوب، وتهواه الأفئدة، وتتحرك لذكره المشاعر.

حب الوطن يظهر في احترام أنظمته وقوانينه، وفي التشبث بكل ما يؤدي إلى وحدته وقوته، حب الوطن يظهر في المحافظة على منشآته ومنجزاته، وفي الاهتمام بنظافته وجماله، حب الوطن يظهر في إخلاص العامل في مكان عمله، والموظف في وزارته وإدارته، والمعلم في مدرسته، حب الوطن يظهر في إخلاص أصحاب المناصب والمسئولين فيما تحت أيديهم من مسؤوليات وأمانات، حب الوطن يظهر في المحافظة على أمواله وثرواته، حب الوطن يظهر في تحقيق العدل ونشر الخير والقيام بمصالح العباد كلٌّ حسب مسؤوليته وموقعه، حب الوطن يظهر في المحافظة على أمنه واستقراره والدفاع عنه، حب الوطن يظهر بنشر القيم والأخلاق الفاضلة ونشر روح التسامح والمحبة والأخوة بين الجميع.

عباد الله:وإذا كان الحديث عن حب الوطن فإن مملكة البحرين تحتفل اليوم بالذكرى التاسعة عشرة لإصدار ميثاق العمل الوطني، الذي يعتبر نقطة تحول غير مسبوقة في تاريخ المملكة، والذي جعل منها نموذجاً عالمياً للتحول الديمقراطي والانفتاح الاقتصادي والتعايش والتسامح الاجتماعي والعدالة والتنمية وحرية الإعلام والتعبير وتقدم المرأة والمجتمع المدني النشط.وبهذه المناسبة الوطنية العزيزة، فإننا نرفع أسمى التهاني والتبريكات إلى قيادتنا الكريمة وإلى شعب البحرين الوفي سائلين الله تعالى  أن يوفق الجميع لما يحبه ويرضاه وأن يحقق لوطننا الغالي المزيد من التقدم والرقي والإزدهار.

أيها المسلمون: فقدانُ الحبِّ شيءٌ مُخيفٌ ينقلُ الإنسانَ إلى مرتبة الحيوان الذي لا تُحرِّكه إلا غرائِزُه وأنانيَّتُه ومطالِبُه الشخصية ومن الغلط الفاحِش والمُنكر العظيم في هذا العصر بثقافته وإعلامه: ربطُ الحبِّ بالمعاني الساقطة والمُسلسلات والأفلام الهابِطة، والأغاني الآثِمة، والتمثيليات الفاضِحة، والاحتفالات الماجنة والعلاقات المُحرَّمة… مسَخوا الحبَّ إلى علاقاتٍ آثِمة، وعلاقاتٍ قصيرةٍ محدودةٍ، حبٌّ تلوكه وتنقله الأخبار الرخيصة، ومعاذ الله أن يُحارِبَ الإسلام الغرائِزَ والفِطَر أو يكبِتَها، ولكنَّه يُنظِّمُها ويُهذِّبُها ويسلُك بها مسالكَ الصلاح والإمتاع والانتفاع والابتهاج.. إن من السوء والبَذاء والفحش أن يُغرسَ في عقول الأطفال والناشئة والشباب أن الحبَّ ما هو إلا علاقاتٌ مُحرَّمة، وأكاذيبُ خادِعة وملفقة، بعيدة عن تعاليم ديننا وهدي نبينا صلى الله عليه وسلم… ومن هنا فإننا نحذر أبنائنا من الشباب والفتيات من أن يزوجوا بأنفسهم في لُجج الهوى وأمواج العشق والغرام والعلاقات المحرمة، فيسعى الشاب إلى ربط علاقاته مع الفتيات، وكذلك الفتيات مع الشباب عبر المعاكسات ووسائل التواصل الاجتماعي وغيرها. وهذه نقمة عظيمة تسوق صاحبها إلى الشقاء والأوجاع والآلام والذل والفضيحة، وقد تكون سبب الشقاء في الدنيا والآخرة. ولا مانع – أيها الأبناء – أن يحب الرجل امرأة ويسعى إلى الزواج منها عبر الطريق المشروع ويأتي البيوت من أبوابها، بدلاً من سلوك الطرق السيئة التي قد تضر الرجل والمرأة أو أحدهما، وقد روي في الحديث عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: لم ير للمتحابين مثل الزواج.

نسأل الله تعالى أن يحفظ بيوتنا وأعراضنا وأن يرزق شبابنا الزوجات الصالحات وبناتنا الأزواج الصالحين، ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين واجعلنا للمتقين إماما.

اللهم إنا نسألك حبك وحب من يحبك وحب العمل الذي يقربنا إلى حبك، اللهم اجعل حبك أحب إلينا من أنفسنا ومالنا وأهلنا ومن الماء البارد على الظمأ، اللهم اغفر لنا ذنوبنا كلها، دقها وجلها سرها وعلانيتها، أولها وآخرها، ما علمنا منها وما لم نعلم.. اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها معادنا، واجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، الموت راحة لنا من كل شر.

اللهم أعز الإسلام وانصر المسلمين، اللهم اجعل كلمتك هي العليا إلى يوم الدين، اللهم آمِنَّا في وطننا، اللهم اجعل هذا البلد آمناً مطمئناً سخاءً رخاءً وسائر بلاد المسلمين، اللهم وفق ولاة أمورنا وفق ملكنا حمد بن عيسى، ورئيس وزرائه خليفة بن سلمان، وولي عهده سلمان بن حمد، وفقهم لما تحب وترضى، وسدد على طريق الخير خطاهم وهيئ لهم البطانة الصالحة الناصحة يا رب العالمين.. اللهم من أراد بلادنا  وبلاد الحرمين الشريفين، وخليجنا وأمننا وجيشنا بسوء وشر وفتنة فأشغله بنفسه، ورد كيده في نحره، واجعل اللهم تدبيره تدميراً عليه يا سميع الدعاء… اللهم كن لإخواننا المستضعفين المظلومين في كل مكان، ناصراً ومؤيداً، اللهم أصلح أحوال المسلمين في كل مكان. اللهم ولي عليهم خيارهم، واصرف عنهم شرارهم، ووحد صفوفهم، يا سميع الدعاء. اللهم أنقذ المسجد الأقصى من عدوان المعتدين، ومن احتلال الغاصبين، اللهم اجعله شامخاً عزيزاً إلى يوم الدين.

اللهم اغفر ذنوبنا واستر عيوبنا، ونفس كروبنا، وعاف مبتلانا، واشف مرضانا، واشف مرضانا، برحمتك يا أرحم الراحمين.

الْلَّهُمَّ نَوِّرْ عَلَىَ أَهْلِ الْقُبُوْرِ مَنْ الْمُسْلِمِيْنَ قُبُوْرِهِمْ، وَاغْفِرْ لِلأحْيَاءِ وَيَسِّرْ لَهُمْ أُمُوْرَهُمْ، الْلَّهُمَّ صَلِّ وَسَلَّمَ وَزِدْ وَبَارِكَ عَلَىَ سَيِّدِنَا وَنَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَىَ آَلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِيْنَ.

(سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ  وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)

     خطبة جامع الفاتح الإسلامي – عدنان بن عبد الله القطان – مملكة البحرين